ا
ورقة بحثية مقدمة من الباحث في السياسات الصحية أ. الهامي الميرغني، وقدمها في جلسة الحوار الثانية "من اجل سياسات صحية تراعي النوع الاجتماعي وإصدار مدونة السلوك المهني لمقدمي الرعاية الطبية في التعامل مع النساء أثناء تلقي الرعاية الطبية" والمنعقدة بفندق سفير بالجيزة يوم 8 سبتمبر 2019 والتي نظمتها مؤسسة القاهرة للتنمية والقانون.
مقدمة :
لا شك أن النساء يعانون من إهمال طبي أكثر من غيرهم من فئات المجتمع وأن مراكز الرعاية الصحية لا تقدم الخدمات الصحية المطلوبة بمستوي الجودة والاتاحة كحق في الصحة للنساء وللرجال ايضاً. ومن المؤكد وجود تمييز ضد النساء في كل نواحي الحياة في مصر. وليس في مجال الصحة فقط . ولكني اختلف مع كون التمييز ضد النساء مجرد مسألة اخلاقية ومهنية فقط فهذا يعد تسطيح للقضية وانحراف عن دراسة اسبابها الحقيقية سواء في منظومة الصحة المريضة في مصر أو في مقدمي الخدمة الصحية والذين يعانون مثلهم مثل المرضي من ضعف التمويل ونقص الإمكانيات وضغط العمل وعدم وجود مكان عمل مهئ وكذلك في تدني الوعي والثقافة الصحية لدي النساء.
إن الطبيب الذي يعمل في ظروف بالغة القسوة ومكان غير مهيأ وملزم بمناظرة عشرات المرضي خلال ساعات العمل وهو يتقاضي بضع جنيهات لا تكفي التغطية احتياجاته الاساسية لا يمكن ان ننظر لتقصيره او حدته باعتبارها مسألة اخلاقية يمكن اصلاحها بمدونة سلوك فتلك كارثة أكبر وأكثر فداحة.
والمراة التي تعاني الاستبعاد والتهميش والنظرة الدونية والمحاطة بكل قيم التخلف والعبودية لن يجدي معها مليون مدونة سلوك لمعاملتها بشكل أفضل. واذا ضيقنا مجال البحث لنتحدث عن النساء الفقيرات والنساء المعيلات سنجد الصورة أشد قبحاً. أما اذا أصيبت هذه السيدة الفقيرة بمرض فإن مواجهة المرض من خلال الوحدات الصحية الحكومية والخيرية هو طريقها الوحيد للعلاج ومن ثم لا تتوقف كثيراً عند سوء المعاملة ولا يعنيها وجود مدونة للسلوك أم لا. بل جل ما يعنيها هو ان تجد مكان مهيئ لاستقبالها وذلك لن تحله مدونة السلوك. وطبيب مستعد ان يسمع شكواها ولديه وقت كاف وعدد مناسب لمناظراتهم من المرضي ويفحصها بهدؤ ويقدم لها الدعم اللازم . وهي بحاجة لأن تجد أدوية مجانية في صيدلية المستشفي أو الوحدة الصحية دون ان تتحمل اعباء لا تطيقها ، وبحاجة لأن تجد سرير في المستشفي حين تحتاج الي فحوص سريرية ، وبحاجة لدور قريب في العمليات الجراحية لتخفيف الامها وكل ذلك لا يرتبط بسلوك الأطباء واخلاقهم المهنية بقدر ما يرتبط بنظام اقتصادي واجتماعي شامل ومنحاز للأغنياء وبقدر ما يرتبط بنظام صحي مريض.
لذلك فإن الحديث عن السلوك المهني هو حديث يمكن ان يصدر عن أجانب يتحدثون عن مصر ولا يصدر عن مصريين يعيشون معنا ويتلقون خدمات صحية في المنشآت الصحية الحكومية والمجانية.
لذلك عندما نبحث التمييز ضد المرأة في علاقته بالحق بالصحة علينا ان نتعرض لبعض جوانب الحق في الصحة ومنها :
لكي نتعرف علي حقيقة التمييز ضد النساء في الصحة وهل هو مجرد سلوك مهني للأطباء يمكن علاجه من خلال مدونة سلوك . أم أنه جزء من أزمة النظام الصحي في مصر. ذلك ما نحاول الاجابة عليه بالأرقام خلال الورقة.
مؤشرات صحة المرأة والتمييز
مشاكل هيكل النظام الصحي
تعاني مصر من تعدد الهياكل التي تقدم الخدمة الصحية ما بين وزارة الصحة والجامعات والقطاع الأهلي والقطاع الخاص . كما تتعدد الجهات الصحية داخل القطاع الحكومي التابع لوزارة الصحة لذلك يعاني المصريين من سوء أوضاع الخدمة الصحية وتردي مستوي الخدمة وغياب معايير الحق في الصحة . ورغم وجود مجلس أعلي للصحة تم تشكيله بالقرار الجمهوري رقم 81 لسنة 1978، ويعمل على تقديم وتسهيل الخدمات الصحية المقدمة لمتلقي الخدمة، بغرض التنسيق الكامل مع جميع الجهات التي تعمل في المنظومة الصحية سواء وزارة الصحة أو المستشفيات الجامعية التابعة للتعليم العالي، إضافة إلي مستشفيات القوات المسلحة والشرطة. وقد ظل المجلس معطل علي مدي عقود طويلة حتي عاد للحياة في مطلع 2019 ليتواكب مع التغيرات الجديدة التي استحدثها قانون التأمين الصحي الاجتماعي الشامل بالقانون رقم 2 لسنة 2018 والذي استحدث هيئة للرعاية الصحية تضم كل الجهات التابعة لوزارة الصحة وهيئة للجودة والاعتماد بجانب هيئة التامين الصحي . لكن ظلت المستشفيات الجامعية ومستشفيات القوات المسلحة والشرطة خارج منظومة التأمين الصحي . لذلك زادت أهمية إحياء المجلس الأعلي للصحة لتحقيق التنسيق المفقود داخل القطاع الصحي والذي ينعكس علي العاملين ومتقلي الخدمة . وربما توضح الأرقام حقيقة التغيرات التي شهدها القطاع علي مدي السنوات الماضية.
إذن المشكلة لا تكمن إطلاقاً في اخلاقيات ممارسة المهنة ومدونة السلوك بقدر إرتباطها بمعايير قياس الحق في الصحة .
اقتصاديات الصحة في مصر
لا يمكن الحديث عن الحق في الصحة بمعزل عن قضية اقتصاديات الصحة ومن ينفق علي الصحة.وما تتحمله الدولة وما يتحمله المريض واسرته.وهل تحول التكلفة دون الحصول علي الخدمة الصحية واتاحتها بشكل متساوي للجميع أم لا؟!
من أين يأتى الإنفاق الصحى ؟!
وفق الحسابات القومية للصحة لعام 2007-8 يأتى تمويل الخدمات الصحية من الجهات التالية بترتيب أهميتها: الإنفاق من الجيب 60%[1]، من وزارة المالية 36%، تمويل من أصحاب الأعمال ومن مشروعات قطاع عام ب2% لكل منهما. ويقتصر التمويل الأجنبى فى ذلك العام على 0.6% (والتمويل الأجنبى فى كل السنوات يتراوح بين حد أقصى 3% والحد الأدنى المذكور هنا 0.6%، فضلا عن أنه صفر بالمائة فى بعض السنوات).
هكذا تراوحت نسبة انفاق المواطنين علي الصحة من الجيب ما بين 64.6% عام 2005 و62.6% عام 2010 ووصلت إلي62% عام 2015.
من يدير الإنفاق الصحي ؟!
يدير التأمين الصحى 8% من الإنفاق الصحى بانخفاض قدرة 4% عن الحسابات القومية للصحة السابقة عن أعوام 2002-3، بينما يرتفع الإنفاق من الجيب فى المقابل من 51% إلى 60%.
لذلك فإن المواطنين يتحملون الحصة الأكبر من الأنفاق الصحي والتي تصل إلى حوالى 60%، يليه وزارة الصحة التى تدير حوالى 23% منه، ثم التأمين الصحى 8% كما سبق أن أوضحنا يليها وزارة التعليم العالى (المستشفيات الجامعية) بحوالى 6%. ويبقى عدد من الآخرين (الوزارات الأخرى، المشروعات الخاصة، هيئة المستشفيات والمعاهد التعليمية، المؤسسة العلاجية، النقابات ...الخ) تتشارك فى إدارة أقل من 5% الباقية.
أين يذهب الإنفاق الصحي ؟!
يذهب نصف الإنفاق الصحى مناصفة تقريبا إلى العيادات الخارجية الخاصة والصيدليات الخاصة لشراء الأدوية، فتختص العيادات الخاصة ب24% منه كما تختص الصيدليات ب26%. ثم تأتى بعد هذا مستشفيات وزارة الصحة بنسبة 18% من الإنفاق وهيئة التأمين الصحى ب8% من الإنفاق الكلى.
ولا يتبقى من المستقبلين الرئيسيين للإنفاق سوى المستشفيات الجامعية (8 %) والمستشفيات الخاصة (7%)، أما النفقات الإدارية لوزارة الصحة فتساوى حوالى 3%. أما الباقى (حوالى 9%) فتذهب إلى جهات متعددة، يهمنا ذكر بعضها حيث يصل نصيب معامل التحاليل إثنان فى الألف ومحلات النظارات و المستلزمات الطبية الأخرى ستة فى الألف. ويخص هيئة المستشفيات والمعاهد التعليمية 1.2% بينما يخص المؤسسة العلاجية 0.7%.
وفي تقرير التنمية البشرية لعام 2014 يرصد ان انفاق المواطنين في مصر علي الصحة من الجيب يعد من اعلي الدول ولم يسبقها سوي بنجلاديش وطاجكيستان والهند ثم مصر في المرتبة الرابعة بينما جاءت 38 دولة في نفس التصنيف المتوسط للتنمية البشرية بنسب أفضل من مصر .
تطور الانفاق علي الصحة في مصر
اذا قمنا بقياس الانفاق علي الصحة إلي الناتج المحلي الاجمالي والي مصروفات الموازنة العامة وتطورهم نجد الآتي:
سلوك مهني أم حق في الصحة
نخلص من دراسة مختلف جوانب الحق في الصحة وعلاقته بالنساء والتمييز . أن المشكلة التي تعاني منها النساء في مصر ليست مشكلة مهنية وليست نتيجة أزمة سلوكية أو أخلاقية بل هي جزء من نقص التمويل وغياب عدالة توزيع الوحدات الصحية ونقص مقدمي الخدمة الصحية وتدني أجورهم وتسليع الصحة وإطلاق يد القطاع الخاص . لذلك فإن الأزمة لن تحلها مدونة سلوك بقدر ما تحتاج لإعمال معايير الحق في الصحة التي أقرها العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والتعليق العام رقم 12 الخاص بمعايير الحق في الصحة.
وقد أكد تقرير لمركز العقد الاجتماعي نفس هذه النتيجة حيث قرر أن قطاع الصحة من أكثر القطاعات الخدمية أهمية وتأثير في حياة المواطنين ، حيث انه يؤثر علي نوعية حياة المواطن وعلي الانتاجية والنمو الاقتصادي بشكل مباشر.ويعاني القطاع الصحي في مصر من الكثير من المشاكل أهمها انخفاض الانفاق الحكومي علي الصحة كنسبة من الانفاق العام ونسبة من الناتج المحلي الإجمالي وهي نسبة منخفضة مقارنة بالدول المماثلة. وأوضح التقرير أنه رغم تحسن بعض مؤشرات الصحة في مصر يوجد انخفاض عام في مستوي الصحة يصاحبه زيادة في نسب الأمراض المزمنة لدي البالغين.[iv]
كما أكد التقرير أن إنخفاض الانفاق الحكومي علي الصحة أدي إلي إنخفاض أجور مقدمي الخدمات الصحية ( الأطباء ، الممرضين ، الإداريين ) وبالتالي إنخفاض كفاءتهم في العمل ، واتجاه العديد منهم إلي العمل في القطاع الطبي الخاص.إذن فهي ليست أزمنة اخلاقية او سلوكية أومهنية ومن واقع تقرير مركز العقد الاجتماعي بمركز معلومات مجلس الوزراء .
كما أن غياب البروتوكولات العلاجية المعتمدة ونظام الحوكمة الكلينيكة الذي يحقق التعليم الطبي المستمر وتقييم سنوي لكل العاملين وتحديد واضح لخطوات واجراءات الكشف والفحص والتحويل يؤدي للمزيد من المشاكل التي تحتاج لرؤية شاملة للمنظومة الصحية وقياس ومتابعة لمعايير الحق في الصحة، ورصد مستمر لكل التجاوزات والانتهاكات ، وتعريف متلقي الخدمة كيف يتعرف علي معايير تقييم الخدمات الصحية التي يحصلون عليها. وماذا يفعل عندما يتعرض لإهمال أو لتعسف من أي نوع.
وليس بمدونة السلوك فقط ينصلح حال الصحة في مصر .
إلهامي الميرغني
8/9/2019
المصادر
[1] - الانفاق من الجيب هو ما يدفعه المواطن من دخله مقابل الحصول علي الخدمة الصحية .
[i] - كوثر – برنامج الخليج العربي للتنمية ( أجفند ) – تقرير تنمية المراة العربية 2015 – المرأة العربية والتشريعات – ملخص التقرير - صفحة 25 -37.
[ii] - معهد التخطيط القومي والصندوق الانمائي للأمم المتحدة – تقرير التنمية البشرية مصر 2016 – العدالة الاجتماعية بين مشروعية التطلعات واستدامة المكتسبات - صفحة 129-130.
[iii] - المركز المصري لبحوث الرأى العام ( بصيرة) سلسلة سياسات تمكين المرأة – الوضع الصحي للمرأة المصرية – العدد 2- أكتوبر 2013.
[iv] - مركز معلومات مجلس الوزراء – مركز العقد الاجتماعي – التأسيس للعدالة الاجتماعية في خطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية - 2013/2014 – محور الصحة .