كيف تدعم مدونات السلوك المهني تمتع النساء بخدمات الرعاية الطبية الآمنة ؟

اعداد:
محمود عبدالظاهر

ورقة بحثية مقدمة من الباحث الحقوقي أ. محمود عبد الظاهر، وقدمها في جلسة الحوار الأولى "من اجل سياسات صحية تراعي النوع الاجتماعي وإصدار مدونة السلوك المهني لمقدمي الرعاية الطبية في التعامل مع النساء أثناء تلقي الرعاية الطبية" والمنعقدة بفندق فلامنكو - الزمالك- القاهرة. يوم الخميس الموافق 25 يوليو 2019، والتي نظمتها مؤسسة القاهرة للتنمية والقانون، في إطار تنفيذ مشروع "مراكز رعاية طبية امنة للنساء" والممول من الاتحاد الأوربي.


 

أولا: الحق في الصحة كحق من حقوق الإنسان

الحق في الصحة هو أحد الحقوق الأساسية للإنسان والمنصوص عليه داخل القانون الدولي لحقوق الإنسان في عدد من الصكوك الدولية منها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، اتفاقية حقوق الطفل، اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، والاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري، والميثاق الافريقي لحقوق الإنسان، لكن تظل المادة الثانية عشر من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية هي الاطار العام للحق في الصحة داخل القانون الدولي. تنص هذه المادة على ما يلي:
"المادة 12 :
1- تقر الدول الأطراف في هذا العهد بحق كل إنسان في التمتع بأعلى مستوى من الصحة الجسمية والعقلية يمكن بلوغه.
2- تشمل التدابير التي يتعين على الدول الأطراف في هذا العهد اتخاذها لتأمين الممارسة الكاملة لهذا الحق، تلك التدابير اللازمة من أجل:
(أ) العمل علي خفض معدل موتي المواليد ومعدل وفيات الرضع وتأمين نمو الطفل نموا صحيا،
(ب) تحسين جميع جوانب الصحة البيئية والصناعية،
(ج) الوقاية من الأمراض الوبائية والمتوطنة والمهنية والأمراض الأخرى وعلاجها ومكافحتها،
(د) تهيئة ظروف من شأنها تأمين الخدمات الطبية والعناية الطبية للجميع في حالة المرض.".

المادة السابقة تعاملت مع الحق في الصحة كحق شامل يتضمن مجموعة متشابكة وواسعة النطاق من القضايا التي تتضافر معا لتحقيق "التمتع بأعلى مستوى من الصحة الجسمية والعقلية يمكن بلوغه". وهو تعريف الحق في الصحة كما يفهم من المادة السابقة.

وفي السياق ذاته فقد عرفت منظمة الصحة العالمية وهي أحد هيئات الأمم المتحدة التي أنشئت عام 1948 لضمان تمتع الافراد بأعلى مستوى ممكن من الصحة يمكن بلوغه، الحق في الصحة بأنه " حالة من الرفاه/اكتمال السلامة الجسدي والنفسي والاجتماعي الكامل، لا تتحقق بمجرد غياب مرض أو عاهة ".

اما لجنة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وهي أحد الاليات التعاقدية لحماية حقوق الإنسان والمعنية بمراقبة التزام الدول بالعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فقد اعتبرت أن الحق في الصحة "حق شامل لا يقتصر على تقديم الرعاية الصحية المناسبة وفي حينها فحسب، بل يشمل أيضاً المقومات الأساسية للصحة مثل الحصول على مياه الشرب المأمونة والإصحاح المناسب، والإمداد الكافي بالغذاء الآمن والتغذية والمسكن، والظروف الصحية للعمل والبيئة، والحصول على التوعية والمعلومات فيما يتصل بالصحة..."

فضلا عن ذلك قدمت اللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في تعليقها العام رقم 14 إرشادات مفصّلة للدول بشأن التزاماتها باحترام الحق في الصحة فقالت أن هذا الحق يتضمن السمات المترابطة والأساسية التالية:[1]
1- التوافر :
يجب أن توفر الدول العدد الكافي من مرافق الرعاية الصحية العاملة على كامل أراضيها، فضلا عن توفير المياه المأمونة ومرافق الصرف الصحي، والموظفين الطبيين والمهنيين المدربين الذين يتقاضون أجرًا منصفًا ، والعقاقير الأساسية.

2- إمكانية الوصول :
 تتسم إمكانية الوصول بأربعة عناصر أساسية هي :
- عدم التمييز:
- إمكانية الوصول المادي:
- إمكانية الوصول بالمنظور الاقتصادي (التكلفة):
 يجب ان تكون تكلفة جميع الخدمات والسلع والمرافق الصحة مناسبة مع قدرة جميع المواطنين على تحملها.
- إمكانية الوصول إلى المعلومات :
يتعين على الدول أن تكفل لكل شخص الحق في التماس المعلومات المتعلقة بالمسائل الصحية والحصول عليها ونقلها.

3- المقبولية:
ينبغي أن تحترم كل المرافق الصحية الأخلاق الطبية وثقافة الأفراد والمجتمعات ، فضلا عن مراعاتها لمتطلبات الجنسين.
(هنا اللجنة تتحدث بشكل واضح عن مراعاة النوع الاجتماعي في تقديم الخدمة الطبية)

4-الجودة:
جودة الخدمة والأجهزة والعقاقير والعناصر البشرية الماهرة.

- ولا يفوتنا هنا أن نلاحظ أم مبدأ عدم التمييز في التمتع بالحقوق_ وهو مبدأ مختلف عن مبدأ المساواة_ يفرض علينا النظر من زوايا معينة حين نتحدث عن الحق في الصحة بشكل عام للنساء، وهو ما التفت اليه إعلان وبرنامج عمل بكين 1995 الذر راعى المنظور الكلي للصحة وضرورة تأمين المشاركة الكاملة للمرأة في المجتمع، فقال:
"إن صحة النساء تشمل رفاههن العاطفي والاجتماعي والبدني وتخضع للظروف الاجتماعية السياسية والاقتصادية لحياتهن"[2]

ثانيا: هل تشهد أماكن تقديم خدمات الرعاية الصحية انتهاكات ذات طبيعة جنسية ضد النساء؟

لا تتوافر حتى الآن ارقام دقيقة حول وقوع انتهاكات ذات طبيعة جنسية للنساء داخل أماكن تقديم الخدمة الطبية في مصر، ولكن جولة سريعة في محرك البحث جوجل باستخدام الكلمات المفتاحية (طبيب+يغتصب) و (تحرش+مستشفى) و (تحرش+عيادة) أظهرت لنا عشرات الوقائع التي تم كشفها ووصلت لصفحات الحوادث بالجرائد لحالات تحرش أو اعتداء جنسي تعرضت له نساء داخل أماكن تقديم الخدمات الطبية سواء المملوكة للدولة أو المنشأت الخاصة، فضلا عن ذلك يمكننا الاسترشاد بمؤشرات ثانوية أهمها انتشار جرائم التحرش الجنسي في المجتمع المصري ككل، حيث أظهرت دراسة "طرق وأساليب القضاء على التحرش الجنسي في مصر" والتي اجرتها هيئة الأمم المتحدة للمساواة بين الجنسين وتمكين المرأة عام 2013 إلى أن نسبة المتعرضات للتحرش الجنسي من النساء في مصر بلغ 99.3%[3]، بالإضافة لذلك فقد تداولت الصحف نتائج دراسة مسحية اجرها أحد الباحثين بجامعة المنصورة في أطار التقدم لنيل درجة الماجستير، أظهرت أن نسبة المتعرضات للتحرش الجنسي من العاملات بالمستشفى الجامعي بالمنصورة اثناء أداء مهام عملهن بلغت 80%[4]، غير أن الدراسة المذكورة لم تفرق بين حوادث التحرش التي ارتكبها الأطباء وزملاء النساء داخل هذه المستشفيات وبين تلك الحوادث التي ارتكبها اخرين تواجدوا بالمستشفى مثل المرضى وذويهم.

كل ما سبق يعطينا صورة ما _وإن لم تكن دقيقة_ عن واقع الانتهاكات ذات الطبيعة الجنسية التي تتعرض لها النساء داخل أماكن تقديم الخدمات الصحية، كون هذه الأماكن في النهاية جزء من الصورة العامة للمجتمع المصري ككل، الذي تمارس فيه جرائم التحرش الجنسي بشكل يومي وعلى سبيل الاعتياد كأفعال طبيعية _رغم تجريمها_ قلما يعاقب مرتكبيها سوء من خلال أطر المحاسبة العامة المتمثلة في جهات انفاذ القانون أو حتى أطر المحاسبة الضيقة والمفترض توافرها داخل كل الكيانات ذات الطبيعة المؤسسية سواء كانت عامة أو خاصة.

ثالثا: أهمية مدونات السلوك في توفير رعاية طبية آمنة للنساء في مصر

بداية يهمنا استرجاع فكرة أشارت ليها اللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في التعلق العام رقم 14 حين قالت: "لا ينبغي فهم الحق في الصحة على أنه الحق في التمتع بصحة جيدة. فالحق في الصحة يشمل حريات وحقوقاً على حد سواء، أما الحريات فتتضمن حق الإنسان في التحكم في صحته وجسده، بما في ذلك حريته الجنسية والإنجابية، والحق في أن يكون في مأمن من التدخل، مثل الحق في أن يكون في مأمن من التعذيب، ومن معالجته طبياً أو إجراء تجارب طبية عليه بدون رضاه"[5]، من هنا يمكن التأسيس لمبدأ سلامة الجسد الإنساني بمفهومه المادي والمعنوي لمتلقي الخدمات الطبية وحق المتلقين/ المتلقيات في الحماية من التحرش والاستغلال الجنسيين أو من أي ممارسات آخرى حاطة بالكرامة، كجزء اصيل من الحق في الصحة.

- أما عن مدونات السلوك المهني فهي أحد الأدوات التنظيمية التي تعتمد عليها المؤسسات المختلفة لضمان تحقيق أفضل الممارسات داخلها من خلال الالتزام بعدد من المعايير الأخلاقية اثناء أداء العمل داخل هذه المؤسسة، وتلتزم مدونات السلوك بالاطار القانوني الذي يحكم المؤسسة ككل أو يحكم المحيط الذي تعمل به، ورغم ان الالتزام الناشئ عن تلك المدونات هو التزام أدبى واخلاقي بالأساس كونها قواعد نموذجية يجب الاسترشاد بها، كما هو الحال في مدونات السلوك الارشادية التي بادرت منظمة الأمم المتحدة بإصدارها لوضع قواعد لتصرفات أصحاب بعض الوظائف العامة التي تؤثر بشكل مباشر على احترام حقوق الإنسان مثل القضاة ورجال الشرطة، الا أن هذه المدونات يمكن أن تكتسب الزامية معينة في حالة قيامها بترديد قواعد قانونية معمول بها داخل الدولة، فمثلا مدونة سلوك الموظفين التي تمنع الرشوة لا يمكن اعتبارها مجرد اطار أخلاقي فحسب، بل هي ملزمة بحكم أن قانون العقوبات في البلاد يجرم كل صور الرشوة، ويمكن أيضا أن تكون مدونات السلوك ملزمة بناء على التزام طوعي للمخاطبين بأحكامها، مثل أن يكون من شروط تقلد وظيفة ما التوقيع بالالتزام بمدونة سلوك معينة، ومن ثم يصبح الاخلال باي من بنود هذه المدونة هو اخلال بشروط التعاقد على تقلد هذه الوظيفة مما يستتبعه بالضرورة محاسبة وعقاب ولا يكون العقاب في هذه الحالة في أطار العقوبات الإدارية داخل المؤسسة.
 

يمكن لمدونات السلوك أن تلعب بخلاف دورها في تقرير مخالفات وعقوباتها أن تلعب دورا توعويا في الترويج لحقوق النساء، فحين تصبح الموافقة على مدونة السلوك أحد شروط الوظيفة يكون على جميع العاملين/ات قراءتها وفهمها، فضلا عن احترامها والتقيد بها.

يمكن كذلك لمدونات السلوك أن توفر أكواد "مجموعة إجراءات مترابطة" للتعامل مع حالات معينة بشكل يخدم حماية النساء من العنف والتمييز مثل الكود الطبي للتعامل مع الناجيات من العنف.

في هذا السياق أيضا يمكن لمدونات السلوك أن تسبق القانوانين العامة فيما يتعلق بالتعامل مع التحرش والاعتداء الجنسيين كون هناك إشكاليات قانونية في تعريف هاتين الجريمتين في القانون العام، فيمكن أن تأتي مدونات السلوك بتعريفات منضبطة وتخلق التزامها الخاص كما سبق أن اشرنا وبذلك تلعب مدونات السلوك دورا في تحريك المجتمع ولفت نظر المشرع لما يشوب بعض مواد القانون من عوار يترتب عليه ظلم وضياع حقوق الناجيات من مثل هذه الجرائم.

كذلك يمكن أن تلعب مدونات السلوك دور عظيم في ربط الرعاية الصحية بباقي حقوق الإنسان وتحقق صفة التكامل والترابط لهذه الحقوق، فتوفر اطار عام يحمي جميع حقوق الإنسان وليس فقط الحق في الصحة، فيتم تناول مسائل مثل الحماية من التمييز، والمشاركة في الشئون العامة، وحق الوصول للمعلومات في مدونات السلوك.

وأخيرا فان مدونات السلوك ولأنها تخص مكان وعدد محدود من البشر_ يسهل تنظيمهم ومراقبة سلوكهم_ يمكن أن تكون اكثر فعالية من القوانين العامة في بعض المسائل التي لا تضعها جهات انفاذ القانون على رأس اجندتها مثل الحماية من التحرش الجنسي.

رابعا: اهم البنود التي يجب النص عليها في مدونة السلوك لمقدمي الرعاية الطبية للنساء

1- المساواة وعدم التمييز في تقديم الخدمة.
2- النص على تعريف واضح للعنف المبني على النوع الاجتماعي و للتحرش والاعتداء الجنسيين، وحظرهم.
3- حظر أي فعل ذو طبيعة جنسية داخل أماكن العمل او بمناسبته_ مثل علاقة بين طبيب ومريضة عنده اثناء فترة العلاج_ حتى لو كان فعل ارادي ( لان فكرة الإرادة هنا هي فكرة منقوصة، فقد تكون هناك سلطة مادية او معنوية، حقيقة او مفترضة بين اطراف العلاقة)
4- احترام الثقافات والأعراف ( دون الفاسد منها)، وهنا نحن نتحدث عن البيئات المنغلقة التي قد ترفض مثلا تقديم خدمات طبية لنساء من قبل رجال، فيجب على ممارسي العمل الطبي احترام ذلك.
5- تقديم التدخلات العلاجية فقط.
الالتزام بالاكواد الطبية في تقديم الخدمة والامتناع عن أي ممارسة اجتماعية ضارة.
6- التعامل مع متلقي الخدمة بوصفهن بشرا وليس مجرد حالات تحتاج للرعاية والمساعدة وإظهار كامل الاحترام لخياراتهم الشخصية.
7- احترام الخصوصية بما يضمن تقديم الخدمات الطبية دون أي أسئلة تخص أي شان غير طبي للنساء متلقي الخدمة.
8- وفي النهاية يجب التأكيد على أن هذه المدونة ليست بديلة عن الأطر القانونية العامة وعلى أن اليات المحاسبة الداخلية الموجودة بها هي محض شأن داخلي للمؤسسة ولا تلزم الناجيات أو غيرهم بعد اللجوء للنيابة العامة بوصفها صاحبة الولاية القضائية العامة.

 

 

المراجع

 

- اللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، التعليق العام رقم 14.

- Women UN ، دراسة "طرق وأساليب القضاء على التحرش الجنسي في مصر"، القاهرة 2013 .

- اعلان ومنهاج عمل بكين 1995

- مواقع صحفية متفرقة

 

 


[1]  اللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، التعليق العام رقم 14:
http://hrlibrary.umn.edu/arabic/cescr-gc14.html

[2]  اعلان ومنهاج عمل بكين هو الاعلان الصادر عن المؤتمر العالمي الرابع للمرأة في بكين 1995 والمنعقد تحت شعار "العمل من أجل المساواة والتنمية والسلام"، وقد تم اعتماده خلال الجلسة العامة للجمعية العامة للأمم المتحدة المعقودة في سبتمبر 1995 بمناسبة مرور 50 عام على انشاء الأمم المتحدة وأعيد تأكيده خلال الدورة الاستثنائية الثالثة والعشرين للجمعية العامة في عام 2000، يمكن الاطلاع على الإعلان كاملا من هنا:

http://hrlibrary.umn.edu/arabic/BeijingDeclPl.html

[3]  UN Women  ، دراسة "طرق وأساليب القضاء على التحرش الجنسي في مصر"، القاهرة 2013

http://bit.ly/2YWmOqR

[4] "دراسة: 80% من العاملات بمستشفيات جامعة المنصورة يتعرضن للتحرش"، موقع جريدة اليوم السابع
تاريخ النشر: 17 فبراير 2013
http://bit.ly/2YFjXU5

[5]  اللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، التعليق العام رقم 14:
http://hrlibrary.umn.edu/arabic/cescr-gc14.html